منتصف شهر يوليو من العام 2002، و خلال اندلاع أزمة جزيرة ليلى، إتصل خوسي ماريا أثنار رئيس حكومة إسبانيا وقتها بالرئيس الفرنسي جاك شيراك طلبا للدعم الديبلوماسي داخل الإتحاد الأوروبي في مواجهة المملكة المغربية، فكان جوابه : " لو كنت مكانكم لأعدت سبتة و مليلية و الجزر إلى السيادة المغربية و أنهيت المشكلة كلها الآن قبل أن تتطور مستقبلا".
روى أثنار تفاصيل المحادثة التيليفونية في الجزء الثاني من مذكراته فيما بعد (كتبها له الصحفي المعادي للمغرب إيغناسيو سيمبريرو) و وصفها بأنها أكثر لحظة شعر فيها بالصدمة طيلة مساره السياسي، بل اعتبرها خيانة فرنسية صريحة لإسبانيا.
فهم أثنار الدرس، أو هكذا خيل له حين أدار بعدها دفة تحركاته مباشرة في إتجاه واشنطن، حيث سوف التقط طرف الخيط و تدخل وزير الخارجية الأمريكي حينها كولن بأول من أجل التوسط بين إسبانيا و المغرب لتهدئة الأوضاع و تجميد الخلاف على ما كان عليه الوضع قبل اندلاعه، و هو ما أنقذ ماء وجه أثنار داخل إسبانيا و خارجها بعد أن قاربت الأزمة على التحول لمواجهة عسكرية بين الدولتين، لكنه صرح لمساعديه بعد لقاءه بكولن باول، بأنه أحس بأن المغرب لو نظم مسيرة خضراء أخرى في إتجاه سبتة و مليلية، سوف يجلس الفرنسيون للمتابعة و التصفيق بحماس.
أقل من سنة بعد ذلك، سوف يبادر خوسي ماريا أثنار برد الجميل للولايات المتحدة الأمريكية عبر القبول بدعوة جورج بوش الإبن بانضمام إسبانيا للحلف الذي سوف يقوم بغزو العراق و إسقاط نظام صدام حسين، و هو ما تم فعلا بمشاركة قرابة 1500 جندي إسباني في الحرب.
و بعد سنة بالتمام و الكمال من ذلك، في صباح 11 من شهر مارس من العام 2004، و مع ساعة الذروة الصباحية، دوت 10 انفجارات ضخمة داخل محطة القطارات المركزية في العاصمة الإسبانية مدريد، مستهدفة أربعة قطارات مليئة بالركاب، و أسفرت هذه الهجمة الإرهابية المفاجئة عن 200 قتيل و حوالي 2000 جريح، و هو ما شكل صدمة داخل المجتمع الإسباني الذي لم يعد معتادا على هذا النوع من الإرهاب، منذ تراجع نشاط منظمة ETA الإنفصالية، و حتى هذه الأخيرة لم تكن عملياتها تتجاوز خطف و اغتيال المسؤولين السياسيين المحليين و سرقة الأبناك أو ابتزاز رجال الأعمال، و لم تلجأ إلى التفجيرات المفخخة إلا نادرا، كرد فعل على جرائم المخابرات العسكرية الإسبانية التي لم يكن يتردد عملاءها في اختطاف و تعذيب و قتل نشطاء المنظمة بنفس الأسلوب الإرهابي.
لكن توقيت وقوع هذه الهجمات لم يكن اعتباطيا بالمرة، فقد حدثت قبل ثلاثة أيام من الإنتخابات العامة الإسبانية، و كانت النتيجة الطبيعية هي سقوط خوسي ماريا اثنار و حزبه سقوطا اعتبر قمة في المهانة، و سمته الصحافة الإسبانية بالطرد السياسي يومها، بعد شهر من ذلك تم سحب مجمل القوات الإسبانية المشاركة في الحرب على العراق، و عادت إسبانيا إلى وضعها الطبيعي، منكمشة داخل رحى بروكسيل، تنتظر دورها في حزمة مساعدات التيسير الكمي التي لجأ إليها البنك المركزي الأوروبي لإنقاذ الإتحاد من الإفلاس و التفكك عقب أزمة الرهون العقارية الأمريكية في نهاية العام 2008.
خلال كل هذه السنوات التي مرت، تحول المغرب شيئا فشيئا و في هدوء تام، إلى النواة المركزية لكل الجهود الاستخباراتية العاملة في مواجهة الإرهاب الإسلامي و شبكات الجريمة المنظمة في هذه المنطقة من العالم، و خلال العشر سنوات الأخيرة، تطورت هذه الحيثية بشكل مطرد إلى أبعاد أخرى، ليتحول المغرب إلى الفاعل الرئيسي الذي يحدد التوجهات و الأولويات في منطقة شمال و غرب إفريقيا ليس فقط على المستوى الأمني، بل الإقتصادي و التنموي و الاستراتيجي أيضا.
لقد تطلب الأمر الكثير من الوقت و الخسائر و الضحايا الأبرياء و الخيارات السياسية الفاشلة، لكي تعي إسبانيا مدى سخافة تعنتها في قضية الوحدة الترابية للمغرب، و سبتة و مليلية و جزر إشفارن ليست سوى تحصيل حاصل الآن، فقد مرت مياه كثرة تحت الجسر منذ 2002.
مهدي بوعبيد