فرنسا من دمشق و بيروت إلى الجزائر و تونس، ما الذي تغير

Amira Bouraoui

من يعرف تاريخ فرنسا و علاقاتها مع الدول التي استعمرتها، سوف يلاحظ أن هناك نسقا واحدا محددا يتكرر بشكل دائم.
بعد انتهاء الإنتداب الفرنسي و استقلال سوريا و لبنان، كانت كل الأنظمة التي حكمت في سوريا لديها هدف واحد فقط لا غير، و هو ابتلاع لبنان و بأي صيغة ممكنة، و بوصول حافظ الأسد للحكم بعد انقلاب عسكري، أصبح ضم لبنان و السيطرة عليه سياسيا و عسكريا و اقتصاديا، و تحويله إلى تابع لدمشق مسألة حيوية بالنسبة لسوريا، و في سبيل هذا لم يتردد الأسد في تغذية الطوائف العرقية و الدينية المتصارعة في لبنان (بالإضافة إلى الفلسطينيين الهاربين من الأردن بعد ما سمي) بمذابح أيلول الأسود، بحيث تحالف في بداية الحرب مع السنة و الدروز و ياسر عرفات و الأحزاب و الجماعات اليسارية ضد اليمين المسيحي الماروني و الأرثوذكسي، ثم بعد أن نجح الطرف الأول في سحق الطرف الثاني و بات اليسار اللبناني بمساعدة ياسر عرفات يسيطر على ثلاثة أرباع لبنان، و بات المسيحيون محاصرين في جبال الشمال، عاد مرة ثانية ثم انقلب الفلسطينيين و من معهم، و قام بتسليح اليمين المسيحي بكثافة شديدة، بل أرسل ضباط المدفعية السورية ليعلموا المليشيات المسيحية كيفية استخدام القصف المركز في تدمير مخيمات اللاجئين الفلسطينيين المحاصرة في ضواحي بيروت طيلة شهور (وصل الأمر بالنساء و الأطفال في مخيمات تل الزعتر و الكرنتينا إلى أكل القطط و الكلاب و الجرذان تحت القصف)، و بعد أن تمت تصفية المخيمات و إزالتها عبر مذابح فظيعة ارتكبت في حق اللاجئين من طرف الميليشيات المسيحية، عاد ثانية لينقلب على المسيحيين الموارنة و بنفس الأسلوب، الحصار و القصف المدفعي المتواصل على حي الأشرفية المسيحي و ضواحيه، و من يهرب من المدنيين تتلقفه حواجز المخابرات السورية و لم يظهر لهم أثر حتى اليوم، و المبرر جاهز طبعأ، فاليمين اللبناني فهم لعبة الأسد الدنيئة و راح يفتح قنوات الإتصال مع إسرائيل التي كانت سخية جدا معهم في الدعم المالي و العسكري و التدريب و التسليح. 
ما يهمني فيما سردته أعلاه، هو الدور الفرنسي الخسيس فيما يحدث، فقد كان حافظ الأسد يومها رجل الإليزيه في الشرق الأوسط، ففي الوقت الذي قامت فيه مصر بتغيير بنيوي شامل في سياستها الخارجية عبر الإنفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد، قامت فرنسا بالاقنراب من دمشق بشكل حثيث و مباشرة بعد وصل الأسد إلى سدة الحكم،، و لم يتوقف هذا التقارب عند حدود العلاقات الديبلوماسية بين بلدين، بل تعمق بشكل كثيف و متواصل، بحيث أصبح عملاء المخابرات الفرنسية الخارجية يتحركون جهارا نهارا داخل سوريا و لبنان (تحت حماية المخابرات الجوية السورية)، و أرسلت باريس ضباطا فرنسيين لتدريب الجيش السوري على كميات الأسلحة النوعية التي قدمتها له (شملت طائرات مروحية مقاتلة من طراز غازيل مسلحة، و كميات ضخمة من صواريخ Milan الفرنسية المضادة للدبابات..)، بل تطور مستوى التعاون إلى الحد الذي سمحت فيه سوريا لفرنسا بالقيام بتجارب للأسلحة الكيماوية و البيولوجية على معتقلي سجن تدمر الرهيب الذي كانت المخابرات السورية تجمع فيه مختطفين من كل الجنسيات (معارضين سوريين، مواطنين لبنانيين و لاجئين فلسطينين)، بل إن القنوات التليفزيونية الفرنسية الرسمية لم تكن تتردد في استقبال زعماء الميليشيات اليمينية المسيحية في استوديوهاتها في جلسات نقاش مطولة رغم أن أيديهم ملطخة بدماء الأبرياء (في مطلع الثمانينات استضاف المذيع الفرنسي الذائع الصيت Bernard Pivot في برنامجه الثقافي الشهير Apostrophe, اللبناني  الماروني جوزيف سعادة المشهور بلقب سفاح السبت الأسود كناية عن المجازر البشعة التي قام بها في السادس من ديسمبر لعام 1975 في حق عمال ميناء بيروت المسلمين في غالبيتهم انتقاما لخطف و قتل ولديه على أحد الحواجز الفلسطينية، و أضعف الاحصائيات تتحدث عن قتل أكثر من 800 شخص في يوم واحد، و لم يخجل واحد من الضيوف "المثقفين" من الجلوس إلى جانب شخص يتبجح بأنه قتل الأبرياء بيديه).
كل ذلك طبعا تحت سمع و بصر الجميع، فرنسا الأنوار، جمهورية الحرية و الإخاء و المساواة، تتحالف مع واحد من أكثر الطغاة العرب دموية، و تقوم بتسليح جيشه بأحدث المعجات، و تدريب ضباطه و التعاون مع مخابراته و تجريب أسلحتها الكيماوية و البيولوجية في حق من اختطفهم و غيبهم دون محاكمة و هم بالآلاف، و لم ينزعج مواطن فرنسي واحد سواء كان مسؤولا سياسيا أو حزبيا أو صحفيا أو حقوقيا من هذا الدعم السخي لمساعدة ديكتاتور دموي مجنون على ضم دولة أخرى بارضها و شعبها لدولته بالذبح و الاختطاف و القتل على الهوية في الحواجز، و بقي هذا الدعم متواصل و مستمرا، بل تزايد أكثر فأكثر بعد غزو صدام حسين للكويت، الذي انتهى بتحييد العراق من خارطة الشرق الأوسط، خصوصاً و أن صدام كان يناكف بشدة كل تدخلات سوريا في لبنان، عن طريق تسليح المليشيات المعارضة لسوريا في لبنان بكثافة كبيرة، و لم تتوقف العلاقات الحميمية بين باريس و دمشق، إلا بعد اغتيال رفيق الحريري و الضغط الأمريكي على دمشق الذي انتهى بسحب أكثر من أربعة فرق عسكرية من الجيش السوري بقيت تنتهك حرمة لبنان منذ نهاية سبعينات القرن الماضي.
السؤال البديهي الآن هو، أين يتكرر هذا النسق الفرنسي في علاقات باريس بمستعمراتها القديمة، و الجواب بسيط و بديهي جدا، ضع الجزائر و تونس اليوم مكان سوريا و لبنان، و سوف تتضح لك الصورة مثل شمس الظهيرة في كبد السماء.
باريس تعرف جيدا أن واشنطن لن تسمح لها باستغلال الوضع المتردي في تونس، و لذلك فهي تعيد الكرة الآن و بنفس السياسة الغبية التي استخدمتها في سوريا و لبنان، عبر دعم #كابرانات_الكوكايين القتلة ليقوموا بابتلاع تونس فعليا، حتى تضمن فرنسا رأس جسر واسع و قوي في شمال إفريقيا، و دائمأ تحت سمع و بصر الإليزيه و وزارة الخارجية و الأحزاب اليسارية و الصحف التقدمية و ناشطي حقوق الإنسان و لجان البرلمان الأوروبي. 
مرة أخرى، من يريد كراهية و معاداة الإستعمار، عليه أولا أن يقرأ و يفهم و يستوعب تاريخه و ماهيته و أساليبه و امتداداتها حول العالم، حتى تكون الكراهية موضوعية و منطقية، أما من يكره فرنسا فقط لأن اللغة الفرنسية صعبة التعلم فتلك حجة الكسالى.
مهدي بوعبيد
08/02/2023