عَاشوا على هامش الحياة فترة طويلة، وجدوا فيها أنفسهم معزولين في بحر الظلمات، حيث قُدّمت لهم مختلف صنوف وألوان الموت الشنيع..اقتيدوا إلى قبور موحشة بدون تفسير أو تبرير لما طرأ، أمضوا فيها سنوات من الأوجاع تحت شعار: "لا شفقة ولا رحمة".. كانوا يحلُمون أن يحُول الحوْل سريعا ليعاودوا معانقة الحياة واستئناف رحلة الأيام مع أهلهم وذويهم، لكنه سجن لا يخرج من دخله إلا ميّتا أو يبتلى بضُروب لا عدَّ لها من العلل والأمراض.
هم أبطال بلا مجد كانوا يتقاسمون الظروف الجهنمية في مخيّمات تندوف السوداء، التي ذاقوا فيها أشكالا لا حصر لها من البؤس والعوز، إذ تعرّضوا لكل أنواع الاحتقار والمهانة التي جعلتهم يشعرون كأنهم دفنوا أحياء..أحسّوا بالاختناق والضياع طيلة عشرين سنة عاشوها في المجهول الأسود داخل "مخيّمات الأبارتيد"، التي تحوّلت إلى آلة طاحنة لتنفيذ الأوامر المجرّمة من قبل ميلشيات البوليساريو.
"ظلت حواسنا يقظة لأن الخوف من المجهول كان يَشحنها بأسوأ الاحتمالات، إذ ترصد الشاردة والواردة وتصرّ على استكشاف خيط نور ضعيف، يعطينا فكرة بسيطة عمّا يروج في أذهان هؤلاء المجرمين"، يقول توفيق إبراهيم، سائق سيارة أجرة صغيرة اعتقل يوم 29 يناير سنة 1979 بإقليم طانطان، بعدما هجمت إحدى كتائب جبهة البوليساريو على المدينة الجنوبية في حدود الواحدة زوالا، ليجد نفسه محتجزا داخل مخيمات تندوف الرهيبة.
من طانطان إلى تندوف..تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم
"التذكّر هو الموت...فمن يستدعِ ذكرياته يمتْ توّا، بعدها، كأنه يبتلع قرص السمّ"، الجملة التي وردت في رواية الطاهر بن جلون، المعنونة بـ "تلك العتمة الباهرة"، يمكن إسقاطها على حالة توفيق إبراهيم الذي أمضى 23 سنة داخل دهاليز السجن، إذ لم يستطع حبس دموعه وهو يتحدث عن مشوار جهنمي ملؤه الألم والعذاب. هذا الواقع المروّع الذي عاشه توفيق تحوّل إلى كابوس مفزع يزعجه كل ليلة.
رجع توفيق إبراهيم بذكرياته إلى الوراء، حيث حاول تذكّر الفترات الأكثر محنة وعذابا في حياته، وقال عن لحظة اعتقاله: "كانت لحظة عنيفة وصادمة شُلّت فيها عقولنا. لقد سيطر علينا يأس قاتل في الحقيقة، وسلّمنا أننا صرنا في عداد الموتى، ولم نكن لنبقى على الحياة لولا العناية الإلهية".
وبخصوص أجواء الحزن التي سادت مدينة كلميم أثناء هجوم ميلشيات البوليساريو، أضاف توفيق بنبرة حسرة: "هجموا على المدينة حوالي الواحدة زوالا. أوقفوا سيارة الأجرة التي كنت أقودها، اعتقلوني رفقة باقي الراكبين دون أدنى سبب تحت ضغط الترهيب والاعتداء". لم ير أسرته طيلة السنوات الثماني الأولى من الاحتجاز، إلا بعد تدخل منظمة الصليب الأحمر الدولية التي ضغطت على جبهة البوليساريو بغية السماح للعائلات ببعث رسائلها إلى السجناء.
طالت ليالي الاحتجاز وتمددت، فبدت لهم وكأنها الأبد.. ماتت أحاسيسهم ولم يعودوا قادرين على تذوق بعض مباهج الحياة، ذلك أنهم وصلوا إلى حافة الموت المحتّم، وخسروا كل صحتهم التي أصبحت معلّقة في هذا الحياة بخيط وهن جدا. لم يجدوا بعد خروجهم من "مخيمات الموت" أي أحد من غير الجمعية الطبية لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب، التي قدمت لهم يد العون بقدر المستطاع.
وفي هذا الصدد، يقول عبد الكريم المانوزي، الكاتب العام للجمعية الطبية لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب، إن "الجمعية تتغيّا الاهتمام بجميع الفئات التي تعرضت لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بمن فيها ضحايا تندوف الذين أمضوا مددا زمنية طويلة تصل إلى ثلاثين سنة"، قبل أن يضيف في حديثه مع جريدة هسبريس الإلكترونية: "ملف الضحايا منسي للغاية، لاسيما أنه يتعلق باعتقال طويل المدى، لذلك نحاول العناية بهم ما أمكن، في ظل عدم إدماجهم من قبل الجهات المسؤولة".
مِحنة جندي عائد من جحيم "سجون الأبّارتيد"
الجيلالي الفطيري، الذي كان جنديّا مكلّفا بالحفاظ على أمن الصحراء رفقة زملائه بعد الرجوع من المسيرة الخضراء، قدِم إلى مخيمات تندوف في ذروة فصل الصيف، ولم يأخذ معه إلا بذلة العسكر الصيفية التي كان يرتديها في تخوم الصحراء، والتي كانت عبارة عن سروال خفيف وقميص مخطط بالأخضر والأسود وحذاء عسكري.. مرّت عليه أعوام قاوم فيها البرد الشديد بهذه الثياب التي تمزّقت منذ الشهور الأولى، دون أن تأبه قيادات الجبهة لذلك، وكان مضطرا للنوم على الأرض.
إذا ما انتصف الليل وجنّ الزمهرير تصطكّ أسنانه ويستمرّ في حك أطراف جسده بحثا عن سراب دفء، لكنه يعلن استسلامه مُجبرا أمام هذه اللعنة النازلة من السماء والصاعدة من الأرض بدموع صامتة؛ فكلما حل البرد إلا ويقتلع من محنة هذا المستضعف المنسي أنينا وتوجعا يُقطّع في الليل والنهار. وبمجرد ما ينتهي فصل الشتاء تنقلب المخيمات من ثلاجة مجمدة إلى فرن متّقد بسبب الحرارة المفرطة.
ويحكي الجيلالي عن فداحة هذه المعاناة قائلا: "تناولنا جميع أنواع المأكولات رديئة الجودة والتحضير معا، من لحم نتن وقطاني مليئة بالأحجار والمسامير والأوساخ القذرة، لكننا كُنّا مكرهين على أكلها بسبب الجوع الشديد الذي حوّل أجسدنا إلى هياكل عظمية تصارع الزمن للوقوف". إنه عالم وحشي طغى عليه التعامل الهمجي من قبل العناصر المسلحة لجبهة البوليساريو، التي انتزعت من المعتقلين سنين طويلة من عمرهم ظلما وعدوانا.
تعود تفاصيل اعتقال الجيلالي الفطيري إلى سنوات السبعينيات، حيث تكلّف رفقة عشرات الجنود بإيصال العتاد العسكري إلى المناطق التي كانت تنشط فيها عصابات تهريب البشر من أوساط الصحراء، ومن ثمة شرعوا في تأمين المنطقة منذ سنة 1976، أي مباشرة بعد العودة من المسيرة الخضراء. لكن لسوء الحظ قبضت إحدى الوحدات المسلحة التابعة لميلشيات البوليساريو على الجيلالي رفقة بعض أصدقائه سنة 1978، ليطلق سراحه في 2002 بعدما قضى ما يناهز 25 سنة داخل سجون تندوف الرهيبة.
"كنا نحو 2400 أسير داخل مراكز الاحتجاز، مدنيين وعسكريين على السواء، تعرّضنا فيها لأبشع أنواع التعذيب. كلما حاولت تذكّر طريقة مقتل ضابطين عسكريين أمام عيني أجهش بالبكاء وأصاب بانهيار عصبي، إذ قُبض عليهما وهما يخططان للهروب من المخيمات، ليقوم بعض الجنود بتعذيبهما إلى أن رفعت روحهما إلى السماء. ويوجد كذلك من مات جراء التعذيب بسبب محاولته سرقة بعض المواد الغذائية".
مشوار جهنّمي دام عشرين سنة داخل غياهب المخيّمات
ماجد أحمد، بحّار مدني أُسِر في الثاني من يوليوز سنة 1980، كان يشتغل لدى شركة في أعالي البحار نواحي مدينة الداخلة، ليُفاجأ بقراصنة ينتمون إلى جبهة البوليساريو وقد أوقفوا مركبهم الذي يتكون من تسعة أشخاص بشكل مباغت، فأمضى بذلك عشرين سنة من التعذيب. ولم يسلم من ويلات المرتزقة حتى الأجانب، إذ قضى بحّار إسباني وآخر كوري سنة واحدة، لكن أطلق سراحهما في ما بعد تحت ضغط بلديهما.
ويقول البحار ماجد، الذي أطلق سراحه في 26 فبراير من سنة 2000: "عصفت العديد من الأمراض الهضمية بحياة الكثير من الأسرى، إثر الطعام السام الذي تحوّل من نعمة إلى نقمة داخل المخيمات.. في أتون هذه المعاناة طغت علينا رائحة المراحيض التي اختنقت فيها قنوات الصرف الصحي، لتصير الحفر التي ننام فيها وجهة لكل أنواع الحشرات، خصوصا في ظل الصيف مفرط الحرارة".
ويضيف ماجد: "كانت السنوات الأولى من أفظع ما عشته في السجن، بسبب شراسة جنود البوليساريو من جهة، وصعوبة التأقلم مع الجوع الشديد والحر المفرط من جهة أخرى؛ فقد كنّا نغرق في بحر لا قاع له من العذاب. وأبسط مثال على هذه المشوار الجهنمي هو لجوء المحتجزين إلى قلع أسنانهم بجرّة عنيفة تحدث وجعا رهيبا، دون إغفال لسعات العقارب في فصل الصيف".
حاول البحار العشريني آنذاك، المزداد بمدينة تارودانت، الهرب ذات يوم من مخيمات تندوف، لكن المحاولة تكلّلت بالفشل، ليكون عقابه شديدا للغاية، إذ تعرّض لأكثر من كسر في ضلوع جسده الهزيل.. "كادت عناصر الجبهة أن تقتلني لأنني تجرأت على قول الله الوطن الملك..احتجزت طيلة شهور في جحيم حفرة مظلمة تكوي بالحر صيفا وبالزمهرير شتاء.. كنت أتوفر على لحاف بال ممزق قذر تفوح منه رائحة الحمير"، يردف ماجد.
كانت الحياة طيلة مشوارهم الجهنمي متساوية في الألم والعذاب، فقد وصلت حالتهم الصحية إلى ما تحت الصفر.. مرّت السنون تباعا، فمن الأسرى من مات ومن بقي شبه حي. كان مفيد عبد الله، وهو جندي اعتقل في منطقة "كلتة زمور" سنة 1981، من ذلك الصنف الأخير، إذ قضى نحو 23 سنة في غياهب السجون، ذاق فيها مرارة الألم والذل؛ ذلك أن عصابات الجبهة كانت تجبره على الحفر طيلة أيام السنة، ويتذكر جيدا تفاصيل إحدى محاولات الهرب الفاشلة التي نفّذها رفقة أصدقائه.. "مات ثلاثة جراء التعذيب وأصيب الثلاثة الآخرين بعاهات جسدية"، مثلما جاء على لسانه.
أسرى تندوف..بين لعنة الاحتجاز وعذاب الإهمال
حَوّلتهم مخيمات تندوف الرهيبة إلى رجال بلا عاطفة، بعدما كرّسوا أنفسهم لخدمة الوطن الذي لم يبخلوا عليه أبدا بما يستطيعون تقديمه، ولو على حساب حياتهم الشخصية.. أعطوه كلّ ما كان لديهم من طاقة وقوة؛ قاوموا وجُلدوا وصبروا لأجله، بل وتمسكوا بالحياة من أجل العودة إلى أرض الوطن، وكانوا يُمنون النفس بالحصول على مساعدات حكومية، لكن مختلف الحكومات المتعاقبة حطّمت جميع أحلامهم وحولتها إلى سراب.
وجهوا رسائل عديدة إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومختلف القطاعات الوزارية بغية إنصافهم، لكن لم تسمع أي من الحكومات توسلاتهم واستغاثتهم، في حين كانت رسائلهم تستصرخ الشهامة الحكومية والمروءة الملكية..ثارت ثائرتهم بعد طول انتظار، فقرروا تنظيم وقفة، امتدت طيلة اثنين وسبعين يوما سنة 2011، شارك فيها مائتا شخص أمام مسجد السنة بالرباط، وجرى الاتفاق بينهم وبين مسؤولين من المؤسسة العسكرية وإدريس اليزمي وعامل العاصمة آنذاك على فضّ الاعتصام مقابل حل ملفهم المطلبي في غضون ثلاثة أشهر، لكنها كانت مجرد "وعود فارغة".
تَرك توفيق إبراهيم، سائق سيارة الأجرة، وراءه أربعة أبناء صغار، خرج سنة 2004 تحت ضغط المنظمات الدولية، لكن المفاجأة كانت صادمة؛ منحوه 1500 درهم فقط وأمروه بالعودة إلى دياره. أما البحّار ماجد أحمد فيحكي أنه توجه إلى جميع الهيئات الحكومية التي باعته الأوهام فقط، بل إنه لا يتوفر على أي ورقة إدارية تعترف به. عُرض على بعضهم اللجوء في فرنسا وإسبانيا بعد خروجهم من المخيمات، لكنهم رفضوا هذه العروض إيمانا منهم بأن الوطن يتّسع للجميع، ليجدوا أنفسهم في غياهب النسيان.