بريبرتوار فني غنيّ ومتنوع نهل من مختلف روافد الفن الحساني شعرا وغناء، حملت الفنانة العصامية سلم يمدح (معروفة بفرقتها المشهورة أمنات عيشاتة) هذا التراث إلى مختلف أصقاع المعمورة، مشكلة، وبتفرد، صلة وصل بينه وبين عشاق هذا التراث وطنيا ودوليا، سواء بشكل مباشر، عبر المهرجانات الدولية أو عبر الوسائل الحديثة التي سهلت التواصل والتفاعل بين العمل الفني والمتلقي.
رحلة فنية وإبداعية امتدت على ما يقرب من أربعة عقود كانت كفيلة، وبكثير من البحث والتنقيب في خزان التراث الصحراوي المغربي، بأن تجعل من سلم يمدح "أيقونة" هذا الموروث الثقافي وسفيرة للنغم والفن الصحراوي أينما حلت بكبريات المنصات العالمية.
ولدت هذه الفنانة في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي في قرية أسرير ضواحي كلميم، وتربت في أسرة فنية عريقة معروفة في منطقة واد نون بالمديح النبوي، والدها يمدح رباح من قبيلة الشيخ ماء العينين ووالدتها من قبيلة أزوافيط والتي عرفت بأداء الأشوار (الأغاني الصحراوية التقليدية).
وسط حي (التواغيل) بمدينة بكلميم، حيث تعيش، تحكي هذه الفنانة العصامية العاشقة للمديح النبوي لوكالة المغرب العربي للأنباء، وعادت بها الذاكرة إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي، حيث شقت أولى الخطوات في مسارها الفني مع ثلاثة من إخواتها في الغناء الحساني والمديح النبوي.
وتألقت الأخوات عيشاته في بداية عقد الثمانينيات، خصوصا في إحياء وتنشيط المناسبات الوطنية والأعياد الدينية. ولا تزال ذاكرتها حافظة لتراث حساني تتوارثه الأجيال، ضابطة مختلف أصوله ومقاماته.
وترى الفنانة أن المديح النبوي هو أس الطرب الحساني، "كان المنطق في الطفولة، كمداحات في المناسبات، وبه نستهل كل الأغاني والسهرات"، مسترسلة في حديثها: "المديح النبوي لازمة ضرورية، على الرغم من الطفرة التي عرفها الفن، عموما، والطرب الحساني، خصوصا".
تقاسيم محياها تعبر عن الكثير من الأحاسيس.. منها الحنين إلى الزمن الجميل في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وبكثير من النوستالجيا حكت عن فنانين ومداحين معروفين في منطقة واد نون، وكانوا "قدوة" لها في الفن والحياة، بعضهم انتقل إلى دار البقاء مثل منت فراجي، وبعضهم الآخر لا يزال حيا أمثال ومحمد لعبيدي ولخليفة.
تمزج يمدح بين الفن الأصيل والعصري مع الحرص على القوالب التقليدية للطرب الحساني من خلال الكلمة المغناة واللباس التقليدي (النكشة والظفرة والملحفة للنساء أو الدراعة التقليدية للرجال)، إضافة إلى استخدام الآلات الموسيقية التقليدية المصنوعة من الخشب وجلود الغنم كالقيثارة وآلات "التدنية" و"الآردين" والطبل والكدرة وغيرها، فضلا عن ادخال آلة "الأورغ" العصرية التي تضفي مسحة شبابية على هذا التراث المتجذر في الصحراء المغربية.
وبكثير من الفخر والاعتزاز، تقول، حافظ جيلها من المداحين على الكلمة الراقية حمالة المعاني والتي يزخر به التراث الحساني، مضيفة بلهجة حسانية أصيلة: "الفن شيء زين ابري (يشفي) الأوجاع، ويفكر في الغايب"، داعية الأجيال الجديدة للطرب الحساني إلى الاهتمام بالكلمة الموزونة والعميقة، وعدم الانجرار وراء الإيقاعات فقط.
أسست يمدح جمعية (يمدح للطرب الحساني) المعروفة بـ"أمنات عيشاتة" سنة 2002 بكلميم، وتضم الفرقة فنانين وفنانات أغلبهم من الشباب، أنتجت عددا كبيرا من الأغاني والألبومات الشهيرة التي أغنت الخزانة الفنية الحسانية.
وتصر هذه الفنانة العصامية، في هذا الحديث مع الوكالة، أنه لا يزال في جعبتها الكثير من الأعمال التي تكتب كلماتها وتلحنها بنفسها بالاستعانة بالشعراء المتمرسين بالكلم والقريض لمراجعتها قبل إخراجها إلى الوجود.
حصلت الفنانة سلم يمدح على الكثير من الشواهد والجوائز التقديرية في مجال الفن وطنيا ودوليا، وسجلت هي وفرقتها الفنية أكثر من مائة مشاركة دولية ممثلة للمغرب في مهرجانات ومناسبات فنية في عواصم عربية وعالمية، إضافة إلى المشاركة في تظاهرات وطنية عديدة.
وقالت إنها معتزة بما حققته إلى حد الآن في مسيرتها الفنية ما يقرب من أربعة عقود، وكذا بتحقيق أمنية حمل العلم الوطني في مناسبات فنية دولية كثيرة وبالتغني بالوحدة الترابية والصحراء المغربية.
وتذكرت في هذا السياق، أثناء الحديث مع الوكالة وفي إطار الأحداث التي علقت بذهنها، مشاركتها ذات يوم بالولايات المتحدة الأمريكية في مناسبة إحياء ذكرى عيد العرش بواشنطن، رفقة وفد مغربي مهم، وكيف حظيت باستقبال كبير واحتفاء من الجالية المغربية هناك الذين تفاعلوا مع سهرتها بشكل كبير.
ولا تكاد هذه الفنانة القديرة تذكر كل ذكريات جولاتها الفنية لكثرتها، والتي قادتها إلى إفريقيا ودول الخليج والعواصم الأوروبية والأمريكية للقاء جمهور هذا الفن الأصيل، الحامل لكل قيم الجمال وبساطة العيش وتفاصيل الحياة في الصحراء المغربية، ناهيك عن التغني بحب رسول الله عليه أفضل الصلوات وأزكاها.