في السياسة الدولية، تلعب المساومات و المقايضات دورا مركزيا في تحقيق المصلحة القومية أو لضمان مكاسب معينة لصالح حليف أو حلفاء سواء داخل النسق الإقليمي أو الدولي. إنها لعبة شائعة و متداولة تتضمن المناورة على هامش و ضد القانون الدولي، و لا تخضع لقواعد مستقرة و دائمة و إنما تتحدد بناءا على توازن القوى في بعدها الدولي، و تقوم أيضا على اعتبارات أخرى مرتبطة بترتيب أولويات السياسة الخارجية لكل دولة و بمتغيرات سياساتها الداخلية. و بالطبع، تختلف الدول في قدرتها على توظيف مواردها و أسباب قوتها في عمليات المساومة و المساومة المضادة، و تختلف كذلك في موقعها و الأدوار التي تقوم بها أو يراد لها أن تقوم بها سواء كفاعل رئيسي أو وسيط في عمليات المساومة أحيانا، أو كطرف خاضع للمساومة أو مقاوِم لها أحيانا أخرى.
في هذا الإطار، يعد المغرب من الدول التي عانت بشكل كبير من هيمنة لعبة المقايضة على القضايا الدولية و تأثرث منها سياستها الخارجية و بالخصوص فيما يتعلق بقضيته الوطنية الأولى و هي استكمال اعتراف المجتمع الدولي بوحدته الترابية باعتبار أن هذا النزاع مازال مدرجا في أجندة مجلس الأمن في إطار الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة.
في البداية، و في فترة الربع الأخير من القرن العشرين، اضطر المغرب إلى التموقع بالرغم منه في مركز الطرف الذي تعتقد كل الدول أن بوسعها لي ذراعه مستغلة قضية الصحراء إذا ما أرادت منه أو عن طريقه تحقيق مصلحتها سواء في سياق علاقات ثنائية أو متعددة الأطراف. لكن، و بالرغم من كل الطعنات التي تلقاها، و الضغوطات التي مورست عليه، تمسك المغرب بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول و امتنع من موقف مبدئي عن الانخراط في مساومات مضادة، كما رفض الاندفاع في تحركات دبلوماسية أو استخباراتية من شأنها أن تهيء له التحول إلى موقع الطرف المساوِم و التي قد تخول له استعمال أوراق ضغط سياسية لابتزاز خصومه، و الغريب أن القاعدة انسحبت حتى على بعض الدول التي شجعت أو دعمت أجندة الانفصال. في مقابل ذلك، اكتفى المغرب بنهج سياسة دفاعية تقوم على تحصين جبهته الدبلوماسية و الخروج بأقل الخسائر عن طريق نهج سياسة الكرسي الشاغر أو التموقع في حالة شرود دبلوماسي مريح، ثم انتقل بشكل محتشم إلى تعزيز قدرته على امتصاص الضربات والتصدي لها، مع استمرارإحجامه عن القيام بردود الفعل التي تفرضها اليقظة الدبلوماسية و التي تتناسب مع حجم الأضرار التي تلحقه جراء سلوكات المساومة.
لقد بلغت هذه السياسة درجة مقلقة من الإشباع السلبي في نهاية التسعينيات من القرن الماضي عندما اعتقدت بعض الأجندات الخارجية في عهد الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون أن بإمكانها الانقلاب على الحجج التاريخية و القانونية و المعطيات الديمغرافية و الاقتصادية لتنزيل مخطط الانفصال في الصحراء المغربية تحت رعاية الأمم المتحدة. من هذا المنطلق، تعرضت سياسة الاسترخاء و الترضية Apeasement لعدة انتقادات نظرا لكونها جعلت المغرب في مرمى كل أشكال الابتزاز و كبدته ضررا جسيما فيما يخص قضية الصحراء حتى من قبل عدة دول لم تكن لتجرأ على نهج سياسة الابتزاز و المساومة لولا تيقنها المسبق بعزوف المغرب عن ردود الفعل و استبعاده لأية استراتيجية هجومية . هذا بالتحديد ما دفع عدة دول إلى لعب ورقة الضغط على المغرب و استفزازه بشكل متكرر اعتقادا منها بأن سياسة الاستكانة نابعة من ضعف هيكلي في قدرته على الدفاع عن أولوياته، و بناءا على موقعه كدولة اعتادت على شغل مركز الطرف المساوَم السلبي، و تكفينا هنا الإشارة إلى مناورات و استفزازات قامت بها دول كموريطانيا و مصر و تركيا و الإمارات العربية المتحدة و هي دول غير معروف عنها العداء البدائي تجاه المغرب. أما الدول المعادية مثل الجزائر و فنزويلا و جنوب إفريقيا فقد جعلت من تقسيم المغرب و دعم الجمهورية المزعومة أحد أركان سياستها الخارجية. لكن، و بالرغم من كل هذه المساومات و الضربات في موقع الألم، فقد ترفع صانع القرار الخارجي في المغرب عن اللعب بنفس الأوراق و لم ينجر للعبة الضرب تحت الحزام، وهذا ما أوَّلته الأطراف الأخرى على أنه عيب بنيوي في صناعة القرار يجعل من المغرب قابلا لأن يخضع لكل أنواع المساومة و أن يكون هدفا سهلا لمخططات التأثير.
مع منتصف العقد الأول من هذا القرن، بدأت السياسة الخارجية المغربية في استخلاص الدروس و العبر من النتائج العكسية التي ترتبت عن دبلوماسية الاستكانة السلبية في الدفاع عن قضية الوحدة الترابية، و اتجهت تدريجيا إلى تغيير خططها و نهج مقاربة هجومية على مستويين: أمميا من خلال التمسك ببقاء ملف الصحراء تحت إشراف الأمم المتحدة و إبطال مفعول كل المغالطات التي تصوغها جهات معادية من قبيل وضع حقوق الإنسان أو استغلال الثروات الطبيعية. و قد تميز هذا النهج الجديد بالعمل على قلب هذه المغالطات رأسا على عقب عن طريق جعل مبادرة الحكم الذاتي في صميم حق تقرير المصير، أما دبلوماسيا فقد كثف المغرب من نشاطه و تواجده و استضافته للقمم و اللقاءات الدولية (العودة للاتحاد الإفريقي، زيارات ملكية و وفود اقتصادية للدول الإفريقية، قمة المناخ، رئاسة المنتدى العالمي ضد الإرهاب، مؤتمر الصخيرات..). لقد انتقل موقف المغرب من مجرد امتصاص الصدمات الخارجية إلى القيام بردود فعل حادة و صارمة و هجومية اتجاه المساومات، و قد اتضح هذا التحول في عدة مناسبات عندما قامت بعض الدول في سياقات مختلفة بمحاولة ابتزاز المغرب أو الإضرار بمصالحه العليا في قضية الصحراء و نذكر منها السويد التي لوح برلمانها بالتصويت على الاعتراف بجبهة البوليسايو، و مصر عندما استضافت وفد البوليساريو في احتفالات الذكرى المئوية لتأسيس برلمانها، و الولايات التحدة الأمريكية في عدة محطات حاولت خلالها الضغط على المغرب عن طريق اللجوء إلى مغالطات حول الوضع الحقوقي بالمغرب أو محاولتها في مجلس الأمن إدراج آلية لمراقبة حقوق الإنسان في مهام بعثة المينورسو، و الاتحاد الأوروبي الذي تبنى بعض أطروحات البوليساريو قبل أن ينكرها في سياق مواجهاته الدبلوماسية مع المغرب سيما عند كل موعد لتجديد اتفاقيات الفلاحة و الصيد البحري.
في كل مناسبة و عقب كل سلوك ابتزازي صدر عن هذه الأطراف، كان ملفتا للنظر كيف أن الدبلوماسية المغربية أبانت عن قدرة غير مسبوقة في ردعه و إجهاضه، بل و ما أصبح يلاحظ في الآونة الأخيرة هو عدم التوقف عند ردود الفعل، بل و الانتقال إلى اتخاذ قرارات ذات طبيعة استباقية من ضمنها الاعتراف بالمعارض الفنزويلي و الرئيس المؤقت خوان غوايدو، و قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران على إثر بعض الأنشطة العسكرية التي قام بها « حزب الله » لصالح البوليساريو ، ناهيك عن التأثير الذي أصبح يمارسه المغرب في أجهزة الاتحاد الإفريقي، و خاصة بمجلس الأمن و السلم الإفريقي و إفشاله لمحاولات متكررة لتعيين مبعوث إفريقي خاص بقضية الصحراء بإيعاز و دعم من الجزائر و جنوب إفريقيا، ثم في الأسابيع الأخيرة فتح عدة دول إفريقية من ضمنها الغابون و ساحل العاج و غينيا الاستوائية لقنصليات لها بكبريات حواضر الأقاليم الصحراوية.
في إطار العلاقات مع إسبانيا، حدث تحول ملفت في السياسة الخارجية المغربية بلغ ذروته بعد قرار بسط الولاية القانونية للمملكة على كافة مجالاتها البحرية شاملة الأقاليم الجنوبية الصحراوية، و هي خطوة دفعت إسبانيا إلى تحريك دبلوماسيتها بشكل حذر مبتغية حماية مصلحتها في أرخبيل الكناري و لم تتجه نحو الطعن في الترسيم مما يكرس ضمنيا اعترافها بسيادة المغرب على مجاله البحري المحاذي للصحراء. و يندرج في نفس السياق قرار السلطات المغربية إغلاق معابر سبتة و مليلية المحتلتين أمام أنشطة التهريب المعيشي، و يأتي هذا القرار لترجمة نفس التوجه الهجومي الذي وضع حكومة بيدرو سانشيز في موقف حرج أمام الرأي العام الإسباني و أمام استنكار و إدانة حكومتي سبتة و مليلية. يجب الإقرار على هذا المستوى أن الرباط فرضت على الجارة الشمالية نسقا دبلوماسيا مرتفعا جعلها تستبدل المساومة و الابتزاز بدبلوماسية مرنة و اعتبارية و أكثر اتزانا تجاه المغرب.
على الصعيد الإفريقي، تجسدت الدبلوماسية الاستباقية للمغرب في علاقاته الخارجية من خلال أدوات اقتصادية و ثقافية و إنسانية ناعمة تتمثل أساسا في تغليب البعد البراغماتي في العلاقات الثنائية مع دول لم يكن المغرب إلى وقت قريب قادرا على تحييد مواقفها العدائية، و أبرزها نيجيريا و إثيوبيا و كينيا. لقد شكلت فكرة تعزيز التعاون الإفريقي جنوب-جنوب و الشراكة الرابحة للجميع و المشاريع الكبرى في قطاعات الزراعة و البنية التحتية و الاستثمارات في الاتصالات و الأبناك و الطاقة نقطة فارقة في باراديغم السياسة الخارجية المغربية، و لقد ساهمت تقوية الروابط الروحية و جاذبية تكوينات التعليم العالي للطلبة الأفارقة و سياسة الهجرة و اللجوء في نفس الاتجاه نحو توسيع نطاق التأثير الحميد و في تحسين صورة المغرب لدى المواطنين الأفارقة عموما. بناءا على كل هذه التحولات، اتجهت معظم الدول الإفريقية إلى التراجع عن سياسة الضغط على موقع الألم في الملفات التي تقع على رأس أولويات الأجندة المغربية، و في مقدمتها قضية الوحدة الترابية، بل و أبعد من ذلك، ارتفع بشكل تدريجي عدد الدول الإفريقية التي سحبت اعترافها بالكيان الانفصالي، و تلك الداعمة للمغرب في أجهزة الأمم المتحدة. على الرغم من كل هذه النجاحات، ما زالت المشكلة الحقيقية كامنة في عضوية البوليساريو بالاتحاد الإفريقي، و ما زالت الدول الداعمة له قادرة على الحيلولة دون طرده أو تجميد عضويته في المنظمة القارية. لكن، بالموازاة مع ذلك توجد فرص قوية لتوسيع دائرة النفوذ في إطار تنزيل منطقة التبادل الحر الإفريقية ZLECA، و التي دخلت حيز النفاذ قبل 6 أشهر.
في أمريكا الوسطى و الجنوبية، و التي كانت تعتبر إلى وقت قريب معقلا للدول المساندة للطرح الانفصالي، نلمس أثر الدبلوماسية الهجومية و التحركات الدبلوماسية من خلال سحب عدة دول لاعترافها بجبهة البوليساريو و في مقدمتها بوليفيا و البيرو و سلفادور و جامايكا. لكن، و بالرغم من نجاح الدبلوماسية المغربية في تسجيل اختراقات مهمة على مستوى مواقف الحكومات و البرلمانات في أمريكا اللاتينية، فما زال حضور المغرب باهتا على صعيد العلاقات السياسية و الاقتصادية باعتبارها المتغير الحاسم في ترسيخ دعم هذه الدول للوحدة الترابية و الشرط الاستراتيجي من أجل تشجيعها على اتخاذ مواقف إيجابية في هذا الشأن. في واقع الأمر، و بالنظر إلى تنامي أهمية البعد الأطلسي في سياسة المغرب الخارجية، مازالت عدة ثغرات تعتري السياسة الخارجية في أمريكا الجنوبية، و ينبغي على صانع القرار الخارجي تكثيف الجهود الدبلوماسية الرسمية و تشجيع المبادرات الموازية و من أهمها تأسيس مراكز للبحث و التفكير في العلاقات المغربية-اللاتينية و خاصة مع العملاق البرازيلي و الأرجنتين.
أما فيما يتعلق بالشراكات غير التقليدية مع قوى كبرى مثل الصين و روسيا و الهند، فقد عرفت السنوات الأخيرة توجها صريحا نحو الانخراط في اتفاقيات ثنائية و الرفع من حجم التبادلات التجارية و التموقع في استراتيجيات كبرى مثل البرنامج الصيني « طريق واحد، حزام واحد »، و كذلك الانخراط في مشاريع صناعية و تكنولوجية وازنة مثل مشروع إنشاء مركب للبتروكيماويات بقيمة تصل إلى أزيد من ملياري دولار من طرف شركة روسية، أو بناء المدينة الصناعية محمد السادس Tangiers Tech من طرف مجموعتين صينيتين. إن السير في منحى علاقات دولية متوازنة و تجنب التموقع الجامد و السلبي في أحلاف أصبحت أكثر تبدلا و أقل قابلية للتحليل و التنبؤ يسهل من الحركية الدبلوماسية و يفسح هامشا أوسع لصنع القرار الخارجي. من هذا المنطلق، سيكون من الضروري تكريس الانفتاح على دول البريكس و على كل المحاور و المنظمات السياسية و الجيواقتصادية الصاعدة في منطقة الأوراسيا أو مع منظمة شنغهاي و منظمة دول أمريكا.
ختاما، نستطيع القول أن السياسة الخارجية المغربية تبدو عازمة اليوم في ظل نظام دولي متحول على إصلاح أخطاء استراتيجية ارتكبتها في الماضي، و ذلك بانتهاج دبلوماسية متيقظة و استباقية و حاضرة على عدة محاور إقليمية و دولية. غير أن النسق السريع للتحولات و التقلبات في خريطة التحالفات الجيوسياسية و التأثير المتنامي للوكلاء و للفاعلين غير الدولاتيين يضع السياسة الخارجية تحت ضغط مستمر و يعرضها لخطر الانتكاس أو لإجراءات انتقامية، لأن التحليل الواقعي للسياسة الدولية يؤكد على أن الاستراتيجيات الهجومية لدولة ما غالبا ما تدفع الدول الأخرى إلى اتخاذ مواقف قد تكون معادية لها أو غير ودية على الأقل، أو إلى انخراطها في تقارب مؤقت مضاد لمصالحها. في هذا الصدد، يمكن الحديث عن محور الجزائر-بريتوريا أو عن التحرك الإماراتي القوي تجاه الجارة موريطانيا و بسط تأثيرها الاقتصادي في ظل الفتور الذي تعرفه العلاقات المغربية الإماراتية. و لا يمكن الاستهانة بردود الفعل العدوانية التي قد تفرزها بعض القرارات الاستراتيجية مثل إنشاء أنبوب الغاز بين نيجيريا و المغرب، أو خيار منح الصين مشروع تشييد القطار السريع بين مراكش و أكادير. في ظل هذه التوقعات، لم يعد المغرب بوسعه الدخول في حالة من الاسترخاء الدبلوماسي، بل أن هذا الواقع الجديد يتطلب منه تخصيص موارد إضافية و موازية لخدمة أهداف السياسة الخارجية، و لتعزيز القدرة على مواجهة الأزمات و التحديات المقبلة. و من أجل ذلك، يتعين في المدى القريب و المتوسط وضع برنامج وطني للتأثير الإعلامي و الثقافي و العلمي إفريقيا و عربيا و أوروبيا عن طريق تطوير مواقع و قنوات إخبارية، و دعم مؤسسات و مراكز التفكير الاستراتيجي المتخصصة في إرشاد و توجيه السياسات.
رضا الفلاح
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ابن زهر. أكادير